عالم الضياع..
كانت واقفة بإستكانة والعاصفة تكاد تقتلعها من مكانها .. عاصفة هوجاء غريبة أثارت في أعماقي خوفا لا حدود له .. عاصفة لا حركة فيها ولا صفير.. ولا غبار .. لكنها بالرغم من ذلك كانت تقتلع الأشجار وتطيح بها في كل مكان ..
كانت تقف باستسلام .. يسبح شعرها الأسود في سماء المكان .. محدقة في الأعلى .. حيث أطل عليها ساهما بحزن وأسى.. خيل إليّ أنها تسعى بنظراتها إلى اختراق المكان غير مبالية بالدوامة التي تعصف بها .. كان مكانا غريبا يصعب تحديد ملامحه .. وكان النور يصراع الظلام مشكلا لوحة باهتة ترتجف لها الأوصال ..
كنت أطل عليها من مكاني دون أن ادري أين أنا منها .. بذلت قصارى جهدي لتحديد معالم وجهها الصغير.. كان رغم بعده قريب مني .. لكنني عجزت عن تبين ملامحه الجديدة..
تمنيت أن أراها أكثر من ذلك .. أن أحبها أكثر من ذلك .. حاولت أن أناديها بأعلى صوتي .. لكن العجز كمم أنفاسي .. "أريدها" .. "أريدها" .. لكنها لم تسمع صرخاتي .. لم تستجب لنداءاتي .. كانت سجينة في عالمها العازل الذي يفتك بها..
حاولت تخيل محاسنها الماضية .. إنها المرأة التي تمنيتها عطرا لحياتي .. حاولت أن أمد يدي إليها.. أن ألمسها بأطراف أصابعي .. أن أجذبها إلى عالمي .. لكن الشجاعة خانتني .. قاومت الضعف الذي يصر على إذلالي ثم هويت جالسا .. وضعت يدي على ركبتي وألقيت برأسي عليهما باكيا .. عالمي وعالمها .. حياتي وحياتها ..
أما هي فقد استمرت في سكونها المرعب .. كلوحة تخلد الجمال في عالم الضياع .. كان الإحساس بالضعة يمزقها .. وكانت تشعر بأنها قد قفزت عاليا حتى تخطت أسوار الشرف .. كانت تشعر بضياعها وانعدام معاني حياتها .. أغمضت عيني باستسلام وأنا أبعد خيالها بقسوة عني .. ما أقسى الحياة على الخارجين على قانونها .. شيء ما في أعماقي يهتف بقوة .. "إنها ليست لك" .. "إنها ليست زوجتك" .. "إنها" ..
إنها تستغيث بي .. شفتاها الرقيقتان تتحركان بوهن وارتجاف .. عيناها تتوسلان في يأس .. أناملها ترتجف بشدة وهي تمتد نحوي في ضعف وخور .. إنها تستنجد بي .. كلماتها الخافتة تتردد برتابة في عقلي .. "أنقذني من الضياع" .. "سأكون لك كما لم أكن لأحد من قبلك" .. "سأحبك كما لم أحب أحد من قبلك" ..
انقطع صوتها المتحشرج وازداد الظلام كثافة وازدادت العاصفة غضبا .. وبدأ العدم يبتلع المكان والزمان.. وبدأت الرؤية تغرق في بحر الظلام .. وبدأ جسمها الضعيف يتلاشى .. نظراتها تزداد حزنا وهي تغوص في الأعماق مبتعدة .. صرخاتها تنسحب بانتظام ورائها وهي تردد .. "سأحبك كما لم أحب أحدا".. "سأحبك كما لم" .. "سأحبك كما" .."سأ.."..
شيء ما في أعماقي يهتف .. "أنقذ حبيبتك من الضياع" .. "أنقذ نفسك من الوحدة" .. "كن شجاعا مدّ يدك وانتشلها" .. "لا تخشى ظلام الماضي فنور المستقبل سيبدده" .. "لا تخشى غضب العاصفة فسكينة الحب ستبدده" .. "لا تكن أنانيا مثلهم" .. "لا تخشى همساتهم فهم يتهامسون منذ فجر التاريخ" .. "فكر في ضياعك بعدها" .. "إنها فرصتك الأخيرة.. أسرع فقد بدأت تضيع" ..
"لا" .. لن أستطيع .. لست قويا مثلها .. لست جريئا مثلها .. لن أحتمل أعين الناس الممزقة وألسنتهم الجالدة.. لن أحتمل همساتهم "تزوج الساقطة".. "تزوج البائعة" ..
مع آخر كلماتي انعدمت الرؤية وساد الظلام واختفت الحبيبة .. أعدت رأسي المثقل إلى ركبتي المرتجفتين وبكيت بحرقة الأطفال.. بعد قليل رفعت عيني الدامعتين بشرود .. يا للعجب .. انه نفس العالم الذي ابتلعها .. سحبه المظلمة تتكاثف فوق رأسي .. حاولت الهرب ولكن بلا فائدة .. سأضيع كما أضعتها .. سيبتلعني الظلام كما ابتلعها ..